سورة آل عمران - تفسير تفسير ابن عطية

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (آل عمران)


        


هذه الآية خطاب من الله تعالى لمحمد عليه السلام، والوضع الولادة، وأنث الضمير في {وضعتها}، حملاً على الموجودة ورفعاً للفظ {ما} التي في قولها {ما في بطني} [آل عمران: 33] وقولها، {رب إني وضعتها أنثى} لفظ خبر في ضمنه التحسر والتلهف، وبيّن الله ذلك بقوله: {والله أعلم بما وضعت}: وقرأ جمهر الناس {وضعَتْ} بفتح العين وإسكان التاء، وقرأ ابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر {وضعْتُ}، بضم التاء وإسكان العين، وهذا أيضاً مخرج قولها، {رب إني وضعتها أنثى} من معنى الخبر إلى معنى التلهف، وإنما تلهفت لأنهم كانوا لا يحررون الإناث لخدمة الكنائس ولا يجوز ذلك عندهم، وكانت قد رجت أن يكون ما في بطنها ذكراً فلما وضعت أنثى تلهفت على فوت الأمل وأفزعها أن نذرت ما لا يجوز نذره، وقرأ ابن عباس {وضعتِ} بكسر التاء على الخطاب من الله لها، وقولها {وليس الذكر كالأنثى} تريد في امتناع نذره إذ الأنثى تحيض ولا تصلح لصحبة الرهبان قاله قتادة والربيع والسدي وعكرمة وغيرهم، وبدأت بذكر الأهم في نفسها وإلا فسياق قصتها يقتضي أن تقول: وليست الأنثى كالذكر فتضع حرف النفي مع الشيء الذي عندها وانتفت عنه صفات الكمال للغرض المراد، وفي قولها {وإني سميتها مريم} سنة تسمية الأطفال قرب الولادة ونحوه قول النبي صلى الله عليه وسلم: ولد لي الليلة مولود فسميته باسم أبي إبراهيم وقد روي عنه عليه السلام أن ذلك في يوم السابع يعق عن المولود ويسمى، قال مالك رحمه الله: ومن مات ولده قبل السابع فلا عقيقة عليه ولا تسمية، قال ابن حبيب: أحب إلي أن يسمى، وأن يسمى السقط لما روي من رجاء شفاعته، و{مريم}، لا ينصرف لعجمته وتعريفه وتأنيثه، وباقي الآية إعادة، وورد في الحديث عن النبي عليه السلام من رواية أبي هريرة قال: «كل مولود من بني آدم له طعنة من الشيطان وبها يستهل إلا ما كان من مريم ابنة عمران وابنها فإن أمها قالت حين وضعتها: {وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم} فضرب بينهما حجاب فطعن الشيطان في الحجاب»، وقد اختلفت ألفاظ الحديث من طرق والمعنى واحد كما ذكرته.
وقوله تعالى: {فتقبلها} إخبار لمحمد عليه السلام بأن الله رضي مريم لخدمة المسجد كما نذرت أمها وسنى لها الأمل في ذلك، والمعنى يقتضي أن الله أوحى إلى زكرياء ومن كان هنالك بأنه تقبلها، ولذلك جعلوها كما نذرت، وقوله {بقبول} مصدر جاء على غير الصدر، وكذلك قوله {نباتاً} بعد أنبت، وقوله {وأنبتها نباتاً حسناً}، عبارة عن حسن وسرعة الجودة فيها في خلقة وخلق، وقوله تعالى: {وكفلها زكريا} معناه: ضمها إلى إنفاقه وحضنه، والكافل هو المربي الحاضن، قال ابن إسحاق: إن زكريا كان زوج خالتها لأنه وعمران كانا سلفين على أختين، ولدت امرأة زكريا يحيى وولدت امرأة عمران مريم، وقال السدي وغيره: إن زكرياء كان زوج ابنة أخرى لعمران، ويعضد هذا القول قول النبي صلى الله عليه وسلم في يحيى وعيسى: ابنا الخالة، قال مكي: وهو زكريا بن آذن، وذكر قتادة وغير واحد من أهل العلم: أنهم كانوا في ذلك الزمان يتشاحون في المحرر عند من يكون من القائمين بأمر المسجد فيتساهمون عليه، وأنهم فعلوا في مريم ذلك، فروي أنهم ألقوا أقلامهم التي كانوا يكتبون بها التوراة في النهر، وقيل أقلاماً بروها من عود كالسهام والقداح، وقيل عصياً لهم، وهذه كلها تقلم، وروي أنهم ألقوا ذلك في نهر الأردن، وروي أنهم ألقوه في عين، وروي أن قلم زكرياء صاعد الجرية، ومضت أقلام الآخرين مع الماء في جريته، وروي أن أقلام القوم عامت علىلماء معروضة كما تفعل العيدان وبقي قلم زكرياء مرتكزاً واقفاً كأنما ركز في طين فكفلها عليه السلام بهذا الاستهام، وحكى الطبري عن ابن إسحاق، أنها لما ترعرعت أصابت بني إسرائيل مجاعة فقال لهم زكرياء: إني قد عجزت عن إنفاق مريم فاقترعوا على من يكفلها ففعلوا فخرج السهم على رجل يقال له جريج فجعل ينفق عليها وحينئذ كان زكرياء يدخل عليها المحراب عند جريج فيجد عندها الرزق.
قال أبو محمد: وهذا الاستفهام غير الأول، هذا المراد منه دفعها، والأول المراد منه أخذها، ومضمن هذه الرواية أن زكرياء كفلها من لدن طفولتها دون استهام، لكن أمها هلكت وقد كان أبوها هلك وهي في بطن أمها فضمها زكرياء إلى نفسه لقرابتها من امرأته، وهكذا قال ابن إسحاق، والذي عليه الناس أن زكرياء إنما كفل بالاستهام لتشاحهم حينئذ فيما يكفل المحرر، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر {وكلفها زكرياء} مفتوحة الفاء، خفيفة {زكرياء} مرفوعاً ممدوداً، وقرأ عاصم في رواية أبي بكر، وكفلها مشددة الفاء ممدوداً منصوباً في جميع القرآن، وقرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص، {كفَّلها} مشددة الفاء مفتوحة، {زكريا} مقصوراً في جميع القرآن، وفي رواية أبي بن كعب، و{أكفلها زكرياء} بفتح الفاء على التعدية بالهمزة، وقرأ مجاهد، {فتقبلْها} بسكون اللام على الدعاء {ربَّها} بنصب الباء على النداء و{أنِبتها} بكسر الباء على الدعاء، و{كفِلها} بكسرالفاء وشدها على الدعاء زكرياء منصوباً ممدوداً، وروي عن عبد الله بن كثير، وأبي عبد الله المزني، و{وكفِلها} بكسر الفاء خفيفة وهي لغة يقال: كفل يكفُل بضم العين في المضارع، وكفِل بكسر العين يكفَل بفتحها في المضارع، {زكرياء} اسم أعجمي يمد ويقصر، قال أبو علي: لما عرب صادق العربية في بنائه فهو كالهيجاء تمد وتقصرب، قال الزجاج: فأما ترك صرفه فلأن فيه في المد ألفي تأنيث وفي القصر ألف التأنيث، قال أبو علي: ألف زكرياء ألف تأنيث ولا يجوز أن تكون ألف إلحاق، لأنه ليس في الأصول شيء على وزنه، ولا يجوز أن تكون منقلبه، ويقال في لغة زكرى منون معرب، قال أبو علي: هاتان ياءا نسب ولو كانتا اللتين في {زكريا} لوجب ألا ينصرف الاسم للعجمة والتعريف وإنما حذفت تلك وجلبت ياء النسب، وحكى أبو حاتم، زكرى بغير صرف وهو غلظ عند النحاة، ذكره مكي.
وقوله تعالى: {كلما} ظرف والعامل فيه {وجد}، و{المحراب} المبنى الحسن كالعرف والعلالي ونحوه، ومحراب القصر أشرف ما فيه ولذلك قيل لأشرف ما في المصلى وهو موقف الإمام محراب، وقال الشاعر: [وضاح اليمن] [السريع]
رَبَّة مِحْرابٍ إذَا جئْتُهَا *** لَمْ أَلْقَهَا أَوْ أرتقي سُلَّما
ومثل قول الآخر: [عدي بن زيد] [الخفيف]
كَدُمَى العاجِ في المحاريبِ أَوْ كال *** بيضِ في الرَّوضِ زَهْرُهُ مُسْتَنِيرُ
وقوله تعالى: {وجد عندها رزقاً}، معناه طعاماً تتغذى به ما لم يعهده ولا عرف كيف جلب إليها وكانت فيما ذكر الربيع، تحت سبعة أبواب مغلقة وحكى مكي أنها كانت في غرفة يطلع إليها، بسلم، وقال ابن عباس: وجد عندها عنباً في مكتل في غير حينه، وقاله ابن جبير ومجاهد، وقال الضحاك ومجاهد أيضاً وقتادة: كان يجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف، وفاكهة الصيف في الشتاء، وقال ابن عباس: كان يجد عندها ثمار الجنة: فاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف، وقال الحسن: كان يجد عندها رزقاً من السماء ليس عند الناس ولو أنه علم أن ذلك الرزق من عنده لم يسألها عنه، وقال ابن إسحاق: هذا الدخول الذي ذكر الله تعالى في قوله {كلما دخل عليها} إنما هو دخول زكرياء عليها وهي في كفالة جريج أخيراً، وذلك أن جريجاً كان يأتيها بطعامها فينميه الله ويكثره، حتى إذا دخل عليها زكرياء عجب من كثرته فقال: {يا مريم أنّى لك هذا} والذي عليه الناس أقوى مما ذكره ابن إسحاق، وقوله {أنى} معناه كيف ومن أين؟ وقولها: {هو من عند الله}، دليل على أنه ليس من جلب بشر، وهكذا تلقى زكرياء المعنى وإلا فليس كان يقنع بهذا الجواب، قال الزجاج: وهذا من الآية التي قال تعالى: {وجعلناها وابنها آية للعالمين} [الأنبياء: 91] وروي أنها لم تلقم ثدياً قط، وقولها: {إن الله يرزق من يشاء بغير حساب} تقرير لكون ذلك الرزق من عند الله، وذهب الطبري إلى أن ذلك ليس من قول مريم وأنه خبر من الله تعالى لمحمد عليه السلام، والله تعالى لا تنتقص خزائنه، فليس يحسب ما يخرج منها، وقد يعبر بهذا العبارة عن المكثرين من الناس أنهم ينفقون بغير حساب، وذلك مجاز وتشبيه، والحقيقة هي فيما ينتفق من خزائن الله تعالى.


هناك في كلام العرب إشارة إلى مكان فيه بعد أو زمان، و{هنالك} باللام أبلغ في الدلالة على البعد، ولا يعرب {هنالك} لأنه إشارة فأشبه الحروف التي جاءت لمعنى، ومعنى هذه الآية: أن في الوقت الذي رأى زكرياء رزق الله لمريم ومكانتها منه وفكر في أنها جاءت أمها بعد أن أسنت وأن الله تقبلها وجعلها من الصاحلات تحرك أمله لطلب الولد وقوي رجاؤه وذلك منه على حال سن ووهن عظم واشتعال شيب وذلك لخوفه الموالي من ورائه حسبما يتفسر في سورة مريم إن شاء الله فدعا ربه أن يهب له ذرية طيبة، و{الذرية} اسم جنس يقع على واحد فصاعداً كما الولي يقع على اسم جنس كذلك، وقال الطبري: إنما أراد هنا بالذرية واحداً ودليل ذلك طلبه ولياً ولم يطلب أولياء، وأنث {الطيبة} حملاً على لفظ الذرية كما قال الشاعر: [الوافر]
أبوك خليفةٌ وَلَدَتْهُ أُخْرى *** وَأَنْتَ خَلِيفَةٌ ذاكَ الْكَمَالُ
وكما قال الآخر:
فما تزدري مِنْ حَيَّةٍ جَبليَّة *** سِكَات إذا ما عضَّ لَيْسَ بأدْرَدا
وفيما قال الطبري تعقب وإنما الذرية والولي اسما جنس يقعان للواحد فما زاد، وهكذا كان طلب زكرياء عليه السلام، و{طيبة} معناه سليمة في الخلق والدين نقية، و{سميع} في هذه الآية بناء اسم فاعل.
ثم قال تعالى: {فنادته الملائكة} وترك محذوف كثير دل ما ذكر عليه، تقديره فقبل الله دعاءه ووهبه يحيى وبعث الملك أو الملائكة بذلك إليه فنادته، وذكر أنه كان بين دعائه والاستجابة له بالبشارة أربعون سنة، وذكر جمهور المفسرين: أن المنادي المخبر إنما كان جبريل وحده وهذا هو العرف في الوحي إلى الأنبياء، وقال قوم: بل نادرت ملائكة كثيرة حسبما تقتضيه ألفاظ الآية، وقد وجدنا الله تعالى بعث ملائكة إلى لوط وإلى إبراهيم عليه السلام وفي غير ما قصة، وفي مصحف عبد الله بن مسعود وقراءته {فناداه جبريل وهو قائم يصلي}، وقرأ ابن كثير ونافع وعاصم وابن عامر وأبو عمرو: {فنادته} بالتاء {الملائكة}، وقرأ حمزة والكسائي {فناداه الملائكة} بالألف وإمالة الدال، قال أبو علي: من قرأ بالتاء فلموضع الجماعة والجماعة ممن يعقل في جمع التكسير تجري مجرى ما لا يعقل، ألا ترى أنك تقول: هي الرجال كما تقول: هي الجذورع وهي الجمال، ومثله: {قالت الأعراب} [الحجرات: 14].
قال الفقيه الإمام: ففسر أبو علي على أن المنادي ملائكة كثيرة، والقراءة بالتاء على قول من يقول: المنادي جبريل وحده متجهة على مراعاة لفظ الملائكة، وعبر عن جبريل بالملائكة إذ هو منهم، فذكر اسم الجنس كما قال تعالى:
{الذين قال لهم الناس} [آل عمران: 173] قال أبو علي: ومن قرأ {فناداه الملائكة}، فهو كقوله تعالى: {وقال نسوة في المدينة} [يوسف: 30].
قال القاضي: وهذا على أن المنادي كثير، ومن قال إنه جبريل وحده كالسدي وغيره فأفرد الفعل مراعاة للمعنى، وعبر عن جبريل عليه السلام بالملائكة إذ هو اسم جنسه، وقوله تعالى: {فنادته} عبارة تستعمل في التبشير وفيما ينبغي أن يسرع به وينهى إلى نفس السامع ليسر به فلم يكن هذا من الملائكة إخباراً على عرف الوحي بل نداء كما نادى الرجل الأنصاري كعب بن مالك من أعلى الجبل، وقوله تعالى: {وهو قائم} جملة في موضع الحال، و{يصلي} صفة لقائم، و{المحراب} في هذا الموضع موقف الإمام من المسجد، وقرأ ابن عامر وحمزة: {إن الله} بكسر الألف، قال أبو علي: وهذا على إضمار القول، كأنه قال: {فنادته الملائكة} فقالت وهذا كقوله تعالى: {فدعا ربه أني مغلوب} [القمر: 10] على قراءة من كسر الألف، وقال بعض النحاة: كسرت بعد النداء والدعاء لأن النداء والدعاء أقوال، وقرأ الباقون بفتح الألف من قوله: {أن الله يبشرك} قال أبو علي: المعنى فنادته بأن الله فلما حذف الجار منها وصل الفعل إليها فنصبها، ف {إن} في موضع نصب، وعلى قياس قول الخليل في موضع جر، وفي قراءة عبد الله {في المحراب، يا زكرياء إن الله}، قال أبو علي: فقوله {يا زكرياء} في موضع نصب بوقوع النداء عليه، ولا يجوز فتح الألف في {إن} على هذه القراءة لأن نادته قد استوفت مفعوليها أحدهما الضمير، والآخر المنادى، فإن فتحت {إن} لم يبق لها شيء متعلق به، قال أبو علي: وكلهم قرأ {في المحراب} بفتح الراء إلا ابن عامر فإنه أمالها، وأطلق ابن مجاهد القول في إمالة ابن عامر الألف من محراب ولم يخص به الجر من غيره، وقال غير ابن مجاهد: إنما نميله في الجر فقط.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو: {يبشرك}، بضم الياء وفتح الباء والتشديد في كل القرآن إلا في {عسق} فإنهما قرآ {ذلك الذي يبشر الله عباده} [الشورى: 23] بفتح الياء، وسكون الباء، وضم الشين، وقرأ نافع وعاصم وابن عامر، يبشِّرك بشد الشين المكسورة في كل القرآن، وقرأ حمزة يبشُر خفيفاً بضم الشين مما لم يقع في كل القرآن إلا قوله تعالى، {فبم تبشرون} [الحجر: 54] وقرأ الكسائي يبشر مخففة في خمسة مواضع في آل عمران في قصة زكرياء وقصة مريم وفي سورة بني إسرائيل والكهف، ويبشر المؤمنين، وفي عسق {يبشر الله عباده}، قال غير واحد من اللغويين: في هذه اللفظة ثلاث لغات، بشّر بشد الشين، وبشر بتخفيفها، وأبشر يبشر إبشاراً، وهذه القراءات كلها متجهه فصيحة مروية، وفي قراءة عبد الله بن مسعود يُبشِرك بضم الياء وتخفيف الشين المكسورة من- أبشر- وهكذا قرأ في كل القرآن.
و {يحيى} اسم سماه الله به قبل أن يولد، قال أبو علي: هو اسم بالعبرانية صادف هذا البناء، والمعنى من العربية، قال الزجاج: لا ينصرف لأنه إن كان أعجمياً ففيه التعريف والعجمة، وإن كان عربياً فالتعريف ووزن الفعل، وقال قتادة: سماه الله يحيى لأنه أحياه بالإيمان {مصدقاً} نصب على الحال وهي مؤكدة بحسب حال هؤلاء الأنبياء عليهم السلام، وقوله تعالى: {بكلمة من الله}، قال ابن عباس ومجاهد وقتادة والحسن والسدي وغيرهم، الكلمة هنا يراد بها عيسى ابن مريم.
قال الفقيه الإمام أبو محمد: وسمى الله تعالى عيسى كلمة إذ صدر عن كلمة منه تعالى لا بسبب إنسان آخر كعرف البشر، وروى ابن عباس: أن امرأة زكرياء قالت لمريم وهما حاملتان: إني أجد ما في بطني يتحرك لما في بطنك، وفي بعض الروايات، يسجد لما في بطنك قال، فذلك تصديقه.
قال الفقيه أبو محمد: أي أول التصديق، وقال بعض الناس: {بكلمة من الله}، معناه بكتاب من الله الإنجيل وغيره من كتب الله فأوقع المفرد موقع الجمع، فكلمة اسم جنس، وعلى هذا النظر سمت العرب القصيدة الطويلة كلمة، وقوله تعالى: {وسيداً} قال فيه قتادة: أي والله سيد في الحلم والعبادة والورع، وقال مرة: معناه في العلم والعبادة، وقال ابن جبير: {وسيداً} أي حليماً، وقال مرة: السيد التقي وقال الضحاك: {وسيداً} أي تقياً حليماً، وقال ابن زيد: السيد الشريف، وقال ابن المسيب: السيد الفقيه العالم، وقال ابن عباس: {وسيداً} يقول، تقياً حليماً، وقال عكرمة: السيد الذي لا يغلبه الغضب.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه كل من فسر من هؤلاء العلماء المذكورين السؤدد بالحلم فقد أحرز أكثر معنى السؤدد ومن جرد تفسيره بالعلم والتقى ونحوه فلم يفسر بحسب كلام العرب، وقد تحصل العلم ليحيى عليه السلام بقوله عز وجل {مصدقاً بكلمة من الله} وتحصل التقى بباقي الآية، وخصه الله بذكر السؤدد الذي هو الاحتمال في رضى الناس على أشرف الوجوه دون أن يوقع في باطل، هذا لفظ يعم السؤدد، وتفصيله أن يقال: بذل الندى، وهذا هو الكرم وكف الأذى، وهنا هي العفة بالفرج واليد واللسان واحتمال العظائم، وهنا هو الحلم وغيره من تحمل الغرامات وجبر الكسير والإفضال على المسترقد، والإنقاذ من الهلكات، وانظر أن النبي عليه السلام قال: أنا سيد ولد آدم ولا فخر يجمع الله الأولين والآخرين، وذكر حديث شفاعته في إطلاق الموقف، وذلك منه احتمال في رضى ولد آدم فهو سيدهم بذلك، وقد يوجد من الثقات العلماء من لا يبرز في هذه الخصال، وقد يوجد من يبرز في هذه فيسمى سيداً وإن قصر في كثير من الواجبات أعني واجبات الندب والمكافحة في الحق وقلة المبالاة باللائمة، وقد قال عبد الله بن عمر رضي الله عنه: ما رأيت أحداً أسود من معاوية بن أبي سفيان قيل له، وأبو بكر وعمر؟ قال: هما خير من معاوية ومعاوية أسود منهما، فهذه إشارة إلى أن معاوية برز في هذه الخصال ما لم يواقع محذوراً، وأن أبا بكر وعمر كانا من الاستضلاع بالواجبات وتتبع ذلك من أنفسهما وإقامة الحقائق على الناس بحيث كانا خيراً من معاوية ومع تتبع الحقائق وحمل الناس على الجادة وقلة المبالاة برضاهم والوزن بقسطاس الشريعة تحريراً ينخرم كثير من هذه الخصال التي هي السؤدد ويشغل الزمن عنها، والتقى والعلم والأخذ بالأشد أوكد وأعلى من السؤدد، أما إنه يحسن بالتقي العالم أن يأخذ من السؤدد بكل ما لا يخل بعلمه وتقاه، وهكذا كان يحيى عليه السلام، وليس هذا الذي يحسن بواجب ولا بد، كما ليس التتبع والتحرير في الشدة بواجب ولا بد، وهما طرفا خير حفتهما الشريعة، فمن صائر إلى هذا ومن صائر إلى هذا، ومثال ذلك، حاكم صليب معبس فظ على من عنده أدنى عوج لا يعتني في حوائج الناس، وآخر بسط الوجه بسام يعتني فيما يجوز، ولا يتتبع ما لم يرفع إليه وينفذ الحكم مع رفق بالمحكوم عليه فهما طريقان حسنان.
وقوله تعالى: {وحصوراً} أصل هذه اللفظة الحبس والمنع، ومنه الحصير لأنه يحصر من جلس عليه ومنه سمي السجن حصيراً وجهنم حصيراً، ومنه حصر العدو وإحصار المرض والعذر، ومنه قيل للذي لا ينفق مع ندمائه حصور، قال الأخطل: [البسيط]
وشارِب مرْبح بالْكَأْسِ نَادَمني *** لا بالحصورِ وَلاَ فِيها بِسَوَّارِ
ويقال للذي يكتم السر حصور وحصر، قال جرير: [الكامل]
وَلَقَدْ تَسَاقَطَني الْوُشَاةُ فَصَادَفُوا *** حَصِراً بسرِّكِ يا أميمُ ضَنِينَا
وأجمع من يعتدّ بقوله من المفسرين على أن هذه الصفة ليحيى عليه السلام إنما هي الامتناع من وطء النساء إلا ما حكى مكي من قول من قال: إنه الحصور عن الذنوب أي لا يأتيها، وروى ابن المسيب عن ابن العاصي إما عبد الله وإما أبوه عن النبي عليه السلام، أنه قال: «كل بني آدم يأتي يوم القيامة وله ذنب إلا ما كان من يحيى بن زكرياء»، قال: ثم دلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده إلى الأرض فأخذ عويداً صغيراً، ثم قال: «وذلك أنه لم يكن له ما للرجال إلا مثل هذا العود، ولذلك سماه الله سيداً وحصوراً»، وقال ابن مسعود الحصور العنين، وقال مجاهد وقتادة: الحصور الذي لا يأتي النساء، وقال ابن عباس والضحاك: الحصور الذي لا ينزل الماء.
قال القاضي: ذهب بعض العلماء إلى أن حصر يحيى عليه السلام كان لأنه لم يكن له إلا مثل الهدبة، وذهب بعضهم إلى أن حصره كان لأنه كان عنيناً لا يأتي النساء وإن كانت خلقته غير ناقصة، وذهب بعضهم إلى أن حصره كان بأنه يمسك نفسه تقى وجلداً في طاعة الله وكانت به القدرة على جماع النساء، قالوا: وهذا أمدح له وليس له في التأويلين الأولين مدح، إلا بأن الله يسر له شيئاً لا تكسب له فيه، وباقي الآية بيّن، وروي من صلاحه عليه السلام أنه كان يعيش من العشب وأنه كان كثير البكاء من خشية الله حتى خدد الدمع في وجهه طرقاً وأخاديد.


اختلف المفسرون لم قال زكرياء {رب أنّى يكون لي غلام} فقال عكرمة والسدي: إنه نودي بهذه البشارة، جاء الشيطان يكدر عليه نعمة ربه فقال هل تدري من ناداك؟ قال: نادتني ملائكة ربي قال بل ذلك الشيطان ولو كان هذا من عند ربك لأخفاه لك كما أخفيت نداءك قال: فخالطت قلبه وسوسة وشك مكانه، فقال: {أنّى يكون لي غلام} وذهب الطبري وغيره إلى أن زكرياء لما رأى حال نفسه وحال امرأته وأنها ليست بحال نسل سأل عن الوجه الذي به يكون الغلام، أتبدل المرأة خلقتها أم كيف يكون؟
قال الفقيه أبو محمد: وهذا تأويل حسن يليق بزكرياء عليه السلام وقال مكي: وقيل إنما سأل لأنه نسي دعاءه لطول المدة بين الدعاء والبشارة وذلك أربعون سنة.
قال الفقيه أبو محمد: وهذا قول ضعيف المعنى، و{أنّى} معناها كيف ومن أين، وقوله {بلغني الكبر} استعارة كأن الزمان طريق والحوادث تتساوق فيه فإذا التقى حادثان فكأن كل واحد منهما قد بلغ صاحبه وحقيقة البلوغ في الأجرام أن ينتقل البالغ إلى المبلوغ إليه، وحسن في الآية: {بلغني الكبر} من حيث هي عبارة واهن منفعل وبلغت عبارة فاعل مستعل، فتأمله ولا يعترض على هذا بقوله: {وقد بلغت من الكبر عتياً} [مريم: 8] لأنه قد أفصح بضعف حاله في ذكر العتيّ، والعاقر الإنسان الذي لا يلد، يقال ذلك للمرأة والرجل، قال عامر بن الطفيل:
لبئس الفتى إن كنت أعور عاقراً *** جباناً فما عذري لدى كل مشهد
و {عاقر} بناء فاعل وهو على النسب وليس بجار على الفعل، والإشارة بذلك في قوله: {كذلك الله}، يحتمل أن تكون إلى هذه الغريبة التي بشر بها أي كهذه القدرة المستغربة هي قدرة الله، ففي الكلام حذف مضاف، والكلام تام في قوله: {كذلك الله} وقوله: {يفعل ما يشاء} شرح الإبهام الذي في ذلك، ويحتمل أن تكون الإشارة بذلك إلى حال زكرياء وحال امرأته كأنه قال: ربِّ على أي وجه يكون لنا غلام ونحن بحال كذا؟ فقال له: كما أنتما يكون لكما الغلام، والكلام تام على هذا التأويل في قوله: {كذلك} وقوله: {والله يفعل ما يشاء} جملة مبينة مقررة في النفس وقوع هذا الأمر المستغرب.

3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10